سورة الرحمن - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان} أي الجنس أو آدم أو محمداً عليهما السلام {عَلَّمَهُ البيان} عدّد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدماً من ضروب آلائه وصنوف نعمائه وهي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علماً بوحيه وكتبه، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. و{الرحمن} مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد كما تقول: زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم وتقدير سويٍ يجريان في بروجهما ومنازلهما وفي ذلك منافع للناس منها علم السنين والحساب {والنجم} النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول: {والشجر} الذي له ساق. وقيل: النجم نجوم السماء {يَسْجُدَانِ} ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده، واتصلت هاتان الجملتان ب {الرحمن} بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له. ولم يذكر العاطف في الجمل الأولى ثم جيء به بعد، لأن الأولى وردت على سبيل التعديد تبكيتاً لمن أنكر آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعطف. وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. وإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
{والسماء رَفَعَهَا} خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه {وَوَضَعَ الميزان} أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس أي خلقه موضوعاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان} لئلا تطغوا أو هي (أن) المفسرة {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} وقوموا وزنكم بالعدل {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} ولا تنقصوه أمر بالتسوية ونهى عن الطيغان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه {والأرض وَضَعَهَا} حفضها مدحوّة على الماء {لِلأَنَامِ} للخلق وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة.
وعن الحسن: الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها {فِيهَا فاكهة} ضروب مما يتفكه به {والنخل ذَاتُ الأكمام} هي أوعية الثمر الواحد (كم) بكسر الكاف أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وكفراه، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه {والحب ذُو العصف} هو ورق الزرع أو التبن {والريحان} الرزق وهو اللب أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه، والجامع بين التلذذ والتغذي هو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب. {والريحان} بالجر: حمزة وعلي أي والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الأنام، والرفع على و(ذو الريحان) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه وفيها الريحان الذي يشم {والحب ذَا العصف والريحان} شامي أي وخلق الحب والريحان أو وأخص الحب والريحان {فَبِأَىّ الاء} أي النعم مما عدد من أول السورة جمع ألى وإلى {رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} الخطاب للثقلين بدلالة الأنام عليهما.


{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال} طين يابس له صلصلة {كالفخار} أي الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف. ولا اختلاف في هذا وفي قوله {مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] {مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] {مّن تُرَابٍ} [غافر: 67] لاتفاقها معنى لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ثم جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً {وَخَلَقَ الجان} أبا الجن قيل: هو إبليس {مِن مَّارِجٍ} هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط {مّن نَّارٍ} هو بيان لما رج كأنه قيل: من صاف من نار أو مختلط من نار، أو أراد من نار مخصوصة كقوله {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} [الليل: 14] {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} أراد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ومغربيهما.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ} أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من قدرة الله تعالى: {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة {فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ} {يَخْرُجُ} مدني وبصري {مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} بلا همز: أبو بكر ويزيد وهو كبار الدر {وَالمَرْجَانُ} صغاره. وإنما قال: {مِنْهُمَا} وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله. وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب {فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}.
{وَلَهُ} ولله {الجوار} السفن جمع جارية. قال الزجاج: الوقف عليها بالياء والاختيار وصلها، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء {المنشآت} المرفوعات الشرع {المنشآت} بكسر الشين، حمزة ويحيى الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن {فِى البحر كالأعلام} جمع علم وهو الجبل الطويل {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} على الأرض {فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} ذاته {ذُو الجلال} ذو العظمة والسلطان وهو صفة الوجه {والإكرام} بالتجاوز والإحسان، وهذه الصفة من عظيم صفات الله وفي الحديث: «ألظوا بياذا الجلال والإكرام» وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال: قد استجيب لك. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} والنعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد. وقال يحيى بن معاذ: حبذا الموت فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب.
{يَسْأَلُهُ مَن فِى السماوات والأرض} وقف عليها نافع كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم، وينتصب {كُلَّ يَوْمٍ} ظرفاً بما دل عليه {هُوَ فِى شَأْنٍ} أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً. وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال: أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلي، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال الأمير: أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل: سوق المقادير إلى المواقيت.
وقيل: إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} وقد صح أن الندم توبة، وقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وكذا قيل: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام. وأما قوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه {فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مستعار من قول الرجل لمن يتهدده (سأفرغ لك) يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه. ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فلا يبقى إلي شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل. {سيفرغ} حمزة وعلي أي الله تعالى: {أَيُّه الثقلان} الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}.
{يامعشر الجن والإنس} هو كالترجمة لقوله {أَيُّهَا الثقلان} {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض فانفذوا} أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هرباً من قضائي فاخرجوا، ثم قال: {لاَ تَنفُذُونَ} لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بسلطان} بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل: دلهم على العجز عن قوتهم للحساب غداً بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم. وقيل: يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة احتاطت به {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ} وبكسر الشين: مكي وكلاهما اللهب الخالص {وَنُحَاسٌ} أي دخان {وَنُحَاسٌ} مكي وأبو عمرو فالرفع عطف على شواظ، والجر على نار، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تمتنعان منهما {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشقت السماء} انفك بعضها من بعض لقيام الساعة {فَكَانَتْ وَرْدَةً} فصارت كلون الورد الأحمر. وقيل: أصل لون السماء الحمرة ولكن من بعدها ترى زرقاء {كالدهان} كدهن الزيت كما قال: {كالمهل} [المعارج: 8] وهو دردي الزيت وهو جمع دهن وقيل: الدهان الأديم الأحمر {فبأيّ ءالآء ربّكما تكذّبان فيومئذٍ} أي فيوم تنشق السماء {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} أي ولا جن فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال: هاشم ويراد ولده والتقدير: لا يسئل إنس ولا جان عن ذنبه. والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] أن ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسئلة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: لا يسئل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسئل للتوبيخ.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} بسواد وجوههم وزرقة عيونهم {فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام} أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}


{هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} ماء حار قد انتهى حره أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} والنعمة في هذا نجاة الناجي منه بفضله ورحمته وما في الإنذار به من التنبيه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة فترك المعاصي أو فأدى الفرائض. وقيل: هو مقحم كقوله: ونفيت عنه مقام الذئب أي نفيت عنه الذئب {جَنَّتَانِ} جنة الإنس وجنة الجن لأن الخطاب للثقلين وكأنه قيل: لكل خائفين منكما جنتان: جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أغصان جمع فنن وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الثمار، أو ألوان جمع فن أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا *** لهوت به والعيش أخضر ناضر
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا} في الجنتين {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} حيث شاءوا في الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} صنفان: صنف معروف وصنف غريب {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ} نصب على المدح للخائفين أو حال منهم لأن من خاف في معنى الجمع {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش {بَطَائِنُهَا} جمع بطانة {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} ديباج ثخين وهو معرب. قيل: ظهائرها من سندس. وقيل: لا يعلمها إلا الله {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكيء. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ}.
في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني {قاصرات الطرف} نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} بكسر الميم: الدوري وعلي بضم الميم والطمث الجماع بالتدمية {إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس {فَبِأَىّ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الياقوت} صفاء {وَالمَرْجَانُ} بياضاً فهو أبيض من اللؤلؤ {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحسان} في العمل {إِلاَّ الإحسان} في الثواب وقيل: ما جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. وعن إبراهيم الخواص فيه: هل جزاء الإسلام إلا دار السلام.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا} ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين {جَنَّتَانِ} لمن دونهم من أصحاب اليمين {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ} سوداوان من شدة الخضرة قال الخليل الدهمة السواد {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا تنقطعان {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فاكهة} ألوان الفواكه {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} والرمان والتمر ليسا من الفواكه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للعطف، ولأن التمر فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه، وهما قالا: إنما عطفا على الفاكهة لفضلهما كأنهما جنسان آخران لما لهما من المزية كقوله: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98].
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ} أي خيرات فخففت وقرئ خيّرات على الأصل، والمعنى فاضلات الأخلاق حسان الخلق {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مقصورات فِى الخيام} أي مخدرات يقال: امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة. قيل: الخيام من الدر المجوف {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ} قبل أصحاب الجنتين ودل عليهم ذكر الجنتين {وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ} نصب على الاختصاص {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض وقيل الوسائد {خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ} ديباج أو طنافس {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل {وَمِن دُونِهِمَا} لأن {مُدْهَامَّتَانِ} دون {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و{نَضَّاخَتَانِ} دون {تَجْرِيَانِ} و{فاكهة} دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ {تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال} ذي العظمة. {ذُو الجلال} شامي صفة للاسم {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن فقال: «مالي أراكم سكوتاً، الجن كانوا أحسن منكم رداً ما أتيت على قول الله {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ولك الشكر» وكررت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم نعوذ بالله منها. والله أعلم.